الطريق إلى أكتوبر 73 – عملية عين السماء

01 Oct 2021

الطريق إلى أكتوبر 73 – عملية عين السماء

—————————————–

نصر أكتوبر ماكانش أبدا حدث من قبيل الصدفة .. أو ضربة حظ حصلت وخلاص لصالح مصر و الجيش المصرى .. لكنها كانت نتاج تعب وجهد وتخطيط دقيق ، بدون أغفال أى تفصيلة مهما كانت بسيطة .. تظافرت فيه جهود كل الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية .. مع الظهير الشعبى .. لتصنع فى النهاية لوحة بانورامية رائعة .. للنصر فى حرب أصبحت مثال يحتذى به ، و بــ يتم تدريسها فى كل المعاهد العسكرية والأمنية على مستوى العالم .. وعلشان كدة .. هــ نقوم بنشر بعض العمليات اللى تمت للإعداد للحرب .. كجزء من حرب المعلومات وخطة الخداع الإستراتيجى .. والتمهيد للوصول لساعة الصفر وعبور خط باريف المنيع … و هــ نبدأ النهاردة بعملية “عين السماء”

=============ا

بمجرد تقلّد الرئيس السادات  مهام منصبه كرئيس للجمهورية ، خلفا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر .. بدأ اتصاله على الفور بجهاز المخابرات العامة المصرية .. وكان من الواضح إن المرحلة القادمة هــ تشهد إعتماد كبير على جهاز المخابرات في أمور كثيرة ، وخصوصا مع الاستعداد للمواجهة الشاملة اللي بــ يجرى الإعداد لها على قدم وساق لاستعادة (سيناء) والثأر من العدو الاسرائيلى وتكبيده خسائر فادحة ، تخليه يفكر ألف مرة قبل ما يفكر يواجه المصريين مرة ثانية ..

وفى الوقت ده كان فيه خطة عامة جرى إعدادها وتنسيقها في مبنى وزارة الدفاع (الحربية في ذلك الحين) باشتراك معظم مؤسسات الدولة وكل نظمها الأمنية لخداع العدو وايهامه بإن مصر مش بتفكر فى الحرب .. وإن الجيش المصرى بــ يحاول يتفادى إندلاع أى حرب بينه وبين الإسرائيليين بأى شكل من الأشكال ..

وكان من الواضح أن الرئيس (السادات) بــ يسعى لخلق فريق عمل جديد يحمل كل رجاله موهبة محددة انتقاها بعناية سواء فى أجهزة المخابرات والأجهزة الأمنية ، أو فى قيادات القوات المسلحة .. ونجح الفريق ده بالفعل في تسيير خطة التمويه والخداع على أفضل ما يكون .. وخصوصا في الشهور الأخيرة قبل الحرب…

وكخطوة أولى تم نقل ورش إصلاح المعدات وصيانتها إلى الخطوط الأمامية للجبهة ، واللى كان له اكبر الأثر عند قيام الحرب فعلياً .. لأنه بالتالى تم نقل أطقم الدبابات إلى الجبهة في عربات نقل جنود عادية ، ثم أرسلت الدبابات فيما بعد يقودها سائقيها فحسب مع أوامر بالذهاب إلى الورش للإصلاح .. و ده بيختلف طبعا فى حالة الحرب … لأنه فى حالة الحرب المفروض إن الدبابات بتتنقل بكامل طاقمها.

وإمعانا في التمويه ، ترك رجال المخابرات العامة واحد من الجواسيس الإسرائيليين يتحرك بمنتهى الحرية ، و يجمع المعلومات عن الدبابات والعربات المصفحة اللي بــ تتجه إلى الجبهة ويبعث للإسرائيليين ما يؤكد أنها قوافل إصلاح فقط … لكن فى اللحظة المناسبة ، وفور اندلاع الحرب ، تم إلقاء القبض عليه بعد إستنفاذ الغرض من وجوده ..

كمان تم وضع كمية كبيرة من الهياكل الخشبية للدبابات والعربات المصفحة.. وإتوزعت بطول الجبهة .. وكان شكلها واضح جدا خلى الإسرائيليين يفهموا إنها مجرد هياكل خداعية … و كانوا بيضحكوا ويسخروا من سذاجة المصريين وتفاهتهم (من وجهة نظرهم طبعا) ، بسبب إستخدامهم هياكل بدائية الصنع بالشكل ده ، ومتصورين إنها قادرة على خداع الإسرائيليين وإيهامهم بأنها دبابات ومعدات حقيقية .. .. لكن بمجرد إندلاع الحرب .. إكتشف الإسرائيليين إنهم كانوا ضحية خدعة المصريين .. وتحولت سخريتهم لألم ومرارة بعدما اكتشفوا أن الهياكل البسيطة دى كانت بــ تخفى في أعماقها كل المعدات الحقيقية ، واللى إستخدمت في عبور القناة وتحطيم خط بارليف الاسطورى ..

وصول معدات العبور في حد ذاته خضع لخطة خداع بسيطة وعبقرية في نفس الوقت .. حيث تم شراء كمية اكبر من كمية المعدات المطلوبة للعبور .. ولما وصلت المعدات الزيادة دى لميناء اسكندرية .. تم شحنها ونقلها بشكل علني يوحى بالإهمال والاستهتار الى منطقة صحراوية في (حلوان) .. وتم تكديسها فوق صناديق خشبية ، وتم تغطيتها في إهمال .. وفضلت كدة تحت بصر كل عيون العدو لحد لحظة قيام الحرب .. فى الوقت اللى كانت فيه المعدات المطلوبة ، تم نقلها فعليا الى الجبهة .. وإتحطت داخل الهياكل الخشبية الساذجة اللى إتكلمنا عنها ….

ولما كانت طائرات الإستطلاع الإسرائيلية بتخترق العمق المصرى وتصور المعدات الموجودة فى الصحراء .. ماكانتش بتشوف غير معدات مهملة .. ملقاة فى الصحراء بدون أى إهتمام من المصريين السذج اللى واضح من طريقة تعاملهم إنهم مش بيفكروا فى الحرب خالص …

لكن المشكلة الحقيقية التي واجهت الجميع فى الوقت ده ، هي أن الجواسيس وطائرات الاستطلاع ماكانتش هى العيون الوحيدة للعدو التي بــ ترصد … لكن كان فيه عين تانية أكثر خطورة .. عين أقمار التجسس الصناعية …. واجتمع الجميع لدراسة إييه اللى ممكن تكشفه الأقمار الصناعية الى بــ تجوب السماء طوال الوقت .. وتقدر ترصد وتصور كل تحركاتنا العسكرية .. بشكل يستحيل معه نقل الجنود والمعدات الى الجبهة بدون ما يكتشف العدو ، اللى بتقوم بيه مصر إستعدادا للحرب القادمة .. وكانت نتائج الدراسة مقلقة للغاية .. لأنه مع العدد الكبير لأقمار التجسس الصناعية .. كانت تحركاتنا متراقبة طوال الوقت تقريبا بالتبادل بين كل قمر والثانى ، وأكد الفريق (الجمسى) أيامها أن التغلب على المشكلة مش مستحيل .. لكن بشرط واحد فقط .. هو حصولنا على خريطة مسارات الأقمار الصناعية .. لأنه مع حصولنا على خريطة مسارات الأقمار الصناعية .. تقدر مصر تقوم بتحريك قواتها للجبهة بأسلوب مدروس .. ومن خلال جدول زمنى معين وبالغ الدقة بحيث تتفادى التحركات دى خطوط مسارات الأقمار الصناعية ..

وكان من الطبيعي أن يتجه فكر الجميع الى الجهة الوحيدة اللي اعتاد رجالها اختراق المستحيل وتحقيق المعجزات على الصعيدين الأمني والحربي .. وهو جهاز المخابرات العامة المصرية … وعلى الفور بدأ التنفيذ … وعلى مدار أسبوعين كاملين ، درس رجال المخابرات المصرية كل ما يتعلق بأقمار التجسس الصناعية ، والصور اللى بــ تلتقطها ، وكيفية التعامل معها ، وكان من الطبيعي إن ده يوصلهم لإعادة دراسة أسلوب التعاون بين مخابرات الدولة صاحبة الأقمار الصناعية والمخابرات الإسرائيلية .. وفى نهاية الأسبوعين أصبحت الصورة واضحة قدامهم ..

الأقمار الصناعية بــ تلتقط الصور على مسارها ، وبعدين بــ تقوم بتحليل ألوانها وتقسيمها إلى 32 درجة لون تتدرج من الأبيض الناصع إلى الأسود القاتم .. وبعدين يتم إرسال التحليل الى محطات الاستقبال الأرضية ، واللى بــ تتولى مجموعة من الخبراء دراستها في الدولة الرئيسية .. وبعدين ترسل الصور اللى بــ تحتوى على معلومات مهمة الى (إسرائيل) ، بحيث يعيد دراستها عدد من خبراء الأرصاد الجوية هناك للحصول على المعلومات اللازمة ..

وبدراسة الموضوع ، كان من الواضح انه مافيش غير وسيلتين للحصول على مسارات الأقمار الصناعية وما تحصل عليه من معلومات .. وهى إما زرع عميل فى مركز استقبال المعلومات في الدولة الكبرى الراعية لدولة الكيان .. أو إننا نسعى لتجنيد احد الخبراء من مركز الأرصاد الجوية في دولة الكيان نفسه .. وفى الحالة الأولى هــ نحصل على خرائط المسارات مباشرة ولكننا هــ نحتاج الى وقت طويل ، علشان نزرع عميل جديد في مكان شديد الحساسية والخطورة زى ده … لكن فى الحالة الثانية .. هــ نقدر نستنتج المسارات الفعلية من الصور الملتقطة وتوقيت كل منها .. وده هــ يستغرق بعض الوقت بالتأكيد ولكن تجنيد احد خبراء الأرصاد فى دولة الكيان أمر أسهل نسبياً .. و هــ يؤدى الى نتائج أفضل ..

وتم مناقشة الموضوع من كل الجوانب داخل إدارة المخابرات العامة .. والموضوع ما أخدش كثير من رجال مصر قبل أن يستقروا على الخطة المناسبة .. وتم إقرار بدء عملية (عين السماء) ..

و بعد راسة مستفيضة لكل فرد من خبراء مركز الأرصاد الاسرائيلى وبالذات أولئك الذين تلقوا دورات تدريبية في قراءة صور الأقمار الصناعية وتحليلها.. وقع إختيار الرجال على أحد الخبراء .. واللى كان شاب إسمه (زلفى) فى أوائل الثلاثينات من عمره من أصل بولندى … وعلشان ماندخلش فى تفاصيل كثيرة ، ومانطوّلش على حضراتكم .. تمت بالفعل عملية السيطرة على (زلفى) .. و فى واحدة من دول أوروبا في بدايات عام 1973م تم اللقاء بينه وبين ضابط المخابرات المصرى .. وكان بــ يحمل فى جيبه قائمة كاملة بأسماء كل القادة العسكريين اللى بــ يتعاملوا مع مركز الأرصاد الإسرائيلي … وكان عنده إستعداد للتعاون مع جهاز المخابرات المصرى لأقصى مدى …

وعلى الرغم من كل ده .. لكن ضابط المخابرات المصرى ماشرحش لزلفى هو عايز إييه بالضبط .. لكن كل اللى قالهوله إن جهاز المخابرات المصرى عايز يعرف بس كل اللى يعرفه الإسرائيليين عن المصريين أولا بأول …. ولمدة شهر كامل كان (زلفى) بيبعث المعلومات اللى بــ يحصل عليها من الصور الى مصر .. واللى بدأ رجال الجهاز يستخدموها فى تكوين صورة أولية عن تحركات الأقمار الصناعية .. إلا أنها ماكانتش كافية للحصول على المطلوب .. وعلشان كدة سافر رجل المخابرات المصرى المسئول عن العملية مرة أخرى الى أوروبا وقابل (زلفى) .. وقال له إن الخبراء عايزين يشوفوا الصور .. ولما (زلفى) إعترض وقال إن ده فيه مخاطرة كبيرة … فكان الرد من رجل المخابرات المصرى إنه مش هــ يرسل الصور نفسها … لكن هــ يرسل أرقامها وتوقيت إلتقاط كل صورة فقط لا غير

وعلى الرغم من دهشة (زلفى) وحيرته .. إلا إنه نفذ الأمر زى ما طلبت منه المخابرات المصرية بالضبط .. وإنهالت المعلومات على الرجال في تواصل مدهش وانهمك فريق من العلماء في إعادة تركيب الصور ودراستها وتحديد مساراتها وتوقيتاتها و ..

وفى منتصف يوليو 1973م كانت كل المعلومات أمام الرئيس والقادة وفريق العمل الخاص بالإعداد للحرب وتم إعداد عدد من الجداول الزمنية شديدة التعقيد تحدد مواعيد تحرك القوات ومساراتها وأماكن توقفها وزمن التوقف بالدقيقة والثانية وصدرت أوامر مشددة بإتباع جداول المواعيد بمنتهى الدقة مهما كان الثمن.

ولما صدرت الأوامر بــ نقل القوات والمعدات إستعداداً للعبور .. بدأت الطوابير تتحرك الى الجبهة في مجموعات صغيرة .. و فوق طرق تم إختيارها بعناية شديدة ، بناء على كل المعلومات المتوفرة عن مسارات الأقمار الصناعية … و كمان تم تنفيذ تحركات خداعية فى أوقات أخرى على الطرق الرئيسية ، علشان ترصدها الأقمار الصناعية .. فــ ترسل للإسرائيليين معلومات خاطئة تخليهم يوصلوا لإستنتاجات خاطئة .. واللى أدت فى النهاية الى فشل حساباتهم وتصورهم أن الحرب بين العرب وإسرائيل مش هــ تيجى أبداً.

و مع عزف نسور الجو المصريين سينفونية الضربة الجوية .. وبدء عبور أسود مصر لقناة السويس وإقتحام خط بارليف المنيع .. هوى خبر اندلاع الحرب على رءوس الجميع كالصاعقة .. وصرخ بعضهم بالفعل ، بأنه من المستحيل أن يفعل المصريون هذا ومن غير الممكن أن ينجحوا في عبور القناة وتحطيم خط (بارليف) الاسطورى ولم يدرك الذين أطلقوا صرخاتهم أن تلك العين التي وضعوها فوق رءوسنا لم تكن تساوى شيئاً أمام عين الخالق (سبحانه وتعالى) التي ترعانا وتسدد خطانا وتقودنا الى النصر.

حفظ الله مصر برئيسها وجيشها وشعبها 🙏

منقول بتصرف عن العمليات الحقيقية من كتاب حرب الجواسيس للدكتور نبيل فاروق

لمتابعة تعليقاتكم