الطريق إلى أكتوبر 73 – عملية الخدعة الطبية

02 Oct 2021

الطريق إلى أكتوبر 73 – عملية الخدعة الطبية

———————————————-

زى ما قولنا إن حرب أكتوبر كانت حدث إستثنائى بكل ما تحمله الكلمة من معنى .. الإستثناء اللى إعتاد المصريين تحقيقه دايما فى أحلك الظروف .. واللى بيكشف المعدن الحقيقى والأصيل للشعب المصرى .. والمتابع والقارئ لكل اللى حصل فى حرب أكتوبر .. هــ يلاقى إن الوصول لساعة الصفر ، وهى لحظة العبور .. سبقها إعداد وتخطيط غير عادى .. تخطيط لم يهمل أدق أدق التفاصيل .. علشان مايسيبش ثغرة واحدة يقدر العدو يتسلل من خلالها لإجهاض الإستعداد لحرب الكرامة وإستعادة الأرض …. وكان الإعداد والتخطيط يشمل خطة الخداع الإستراتيجى الشاملة .. واللى من ضمنها ، الخدعة اللى هــ نتكلم عنها النهاردة …. “الخــدعـــة الـطـّبـيـة” 🙂

سبتمبر 1973 ..

اقتربت ساعة الصفر ، وبدأ العد التنازلي لحرب أكتوبر .. فى الوقت اللى كان رجال مصر بيواصلوا الليل بالنهار ، علشان خطة الخداع الإستراتيجى تفضل ماشية فى مسارها ، من غير ما ينتبه العدو أو تلتقط عيونه لمحة واحدة ممكن تكشف اللى بيقوم بيه جيشنا ، واللى بــ تعده قياداتنا السياسية و العسكرية للوصول لساعة الصفر 

وكل ما تظهر مشكلة ، كان على الرجال إنهم يبحثوا عن أفضل الحلول ، وبأكثر الوسائل أمناً .. وبطرق مبتكرة وجديدة ، بحيث إن العدو ماينتبهش للى بيحصل ، فــ يقدر يستنتج من خلال الفعل .. إرتباطه الحتمى بقرب إندلاع الحرب !

ولأنه زى ما ذكرنا ، كان بــ يتم التفكير فى كل التفاصيل وحساب كل الإحتمالات .. فكان من أكبر المشكلات اللى واجهت رجالة مصر مشكلة توفير أماكن العلاج للمصابين ، واللى توقع بعض الخبراء إنهم ممكن يوصلوا لمستوى 50% في موجة العبور الأولى ، وبعدين يبدأ العدد يتناقص بعدها تدريجياً .. وطبقاً لتقدير الخبراء كان من الضروري أن يتم إخلاء عدد من المستشفيات المدنية علشان تستقبل كل العدد ده ، واللى أكيد مش هــ تقدر تسوعبه مستشفيات القوات المسلحة وحدها.

و هنا اجتمع رجال وخبراء الجهاز ، يدرسوا و يفكروا و يتناقشوا و يتجادلوا ، ويحاولوا يوجدوا حل للمشكلة دى … لأن إخلاء المستشفيات المدنية مش عمل بسيط يمكن إخفاؤه ، وخصوصاً إن كل مريض إتعود يروح يتعالج فى إحدى المستشفيات ، أكيد هــ يستنكر إغلاق المستشفى دى وهيشتكى للجيران والأقارب والأصدقاء وكل محيط المعارف .. ولو على سبيل الفضفضة … وممكن يكون بين محيط معارفه اللى هــ ينقل الخبر إلى تل أبيب … وبالتالى كان لازم يبقى فيه سبب منطقى لإخلاء المستشفيات دى … وإتفقوا كلهم إنه لازم يبقى سبب طبى بحت … و من هنا .. وبعد مناقشات ومداولات إستغرقت الليل بطوله .. إتفقوا جميعا على الخطة .. ووضعوها موضع التنفيذ …

وبعد عدة ساعات وصل إلى إحدى الوحدات العسكرية في السويس قرار من إدارة شئون الضباط للقوات المسلحة ، بتسريح ضابط طبيب من الخدمة ، و عودته إلى الحياة المدنية ……. والحقيقة إن إجراء زى ده كان نادر الحدوث .. وخصوصاً بالنسبة لدولة فى حالة حرب .. وعلشان كدة ، أظهر الضابط الطبيب اللى تم تسريحه فرحته و سعادته ، و همس للمقربين إليه بإن الواسطة عملت شغل .. وإن جهود خاله اللى بــ يحتل مكانة رفيعة في القيادة هي اللى ساعدته فى كدة ، علشان يقدر يكمل دراساته العليا ، اللى توقفت مؤقتاً بسبب إلتحاقه بكلية ضباط الإحتياط من عدة سنوات.

و كإجراء طبيعي وبمجرد عودة الطبيب لحياته المدنية ، تسلم وظيفته السابقة في وزارة الصحة ، وبعد 3 أيام تسلم خطاب التعيين في مستشفى (الدمرداش) .. واللى وقع عليه الإختيار فى حقيقة الأمر علشان يكون على رأس قائمة المستشفيات المطلوب إخلاؤها قبل ما تبدأ الحرب.

و قبل مرور أسبوع واحد على تسلمه العمل ، كان بــ يتقدم بمذكرة إلى مدير المستشفى في إنفعال بإنه من الخطأ إستمرار العمل فى المستشفى بالشكل ده لأن معظم عنابر المستشفى ملوثة بميكروب التيتانوس .. وده فيه خطورة على المرضى ، وإنه بــ يحمّل مدير المستشفى مسئولية إنتشار الميكروب …

وهنا قرر مدير المستشفى مضطراً إنه يقوم بفحص شامل ، والقيام بإجراء عدد من التحليلات ، قبل إتخاذ أي قرار .. و تم تجميع العينات المطلوبة ، و إجراء كل الفحوص الممكنة ….. والمدهش أنه على الرغم من خلو المستشفى فعلياً من الميكروب ، إلا أن كل نتائج تحليل العينات طلعت إيجابية ، و كأن مستشفى (الدمرداش) تحول إلى مزرعة نشطة لميكروب التيتانوس بالذات … وهنا صدر قرار بإخلاء المستشفى تماماً من المرضى لتطهيره من الميكروب ، و تم إتخاذ كل الإجراءات اللازمة.

و في نفس الليلة إجتمع الرجال مرة أخرى ، وكان من الواضح أن خطتهم ماشية على ما يرام بالنسبة لمستشفى (الدمرداش) .. لكنهم كانوا متفقين إنه من المستحيل تكرار نفس الموضوع فى مستشفيات تانية بنفس الطريقة ، وإلا هــ ينتبه العدو إن ده شيئ مش طبيعى .. وبقليل من التحليل والإستنتاج ممكن يتوصل للحقيقة .. وهنا كان الإتفاق على إن الإستمرار فى الخطة لازم يبقى من خلال فضيحة … وكانت الجهة الوحيدة اللى ممكن تعمل فضيحة _فى ذلك الوقت_ هى الصحافة بما تمتلكه من تأثير الكلمة المطبوعة على مشاعر الجماهير ، و خصوصاً لو كانت الكلمة صادرة من كاتب بــ يحترمه الجميع و بــ يثقوا فى اللى بيقوله ..

وبما إن كل رجل مخابرات يدرك تماماً إنه من أهم المصادر اللى بــ يستقي منها العدو معلوماته هى الصحف .. لدرجة إن لكل جهاز تقريباً قسم خاص ، مهمته الحصول على الصحف و المطبوعات الخاصة بالدول الأخرى ، للإطلاع على ما بها من معلومات ، و دراستها و تحليلها … و من المنطلق ده ، إتخذ الرجال قرارهم بالوسيلة اللى هــ يتعاملوا بيها مع رجال الصحافة و الإعلام .. فــ تم الإتصال بالكاتب الصحفى (موسي  صبري) ، وتم عقد لقاء معه داخل جهاز المخابرات وطلبوا منه التعاون ..

و الطريف إن رجل المخابرات اللى إجتمع بالكاتب الشهير ، ماشرحلوش حقيقة الموقف .. لكن كل اللى قاله إنهم بــ يحاولوا إجراء تجربة علمية ، للى ممكن يحصل لو لجأ العدو إلى أسلوب (الحرب البكتروبيولوجية) ، و نشر نوع من الميكروبات في البلد و خصوصاً في المستشفيات … و أن أفضل وسيلة لإجراء التجربة دى من غير إثارة الذعر ، هي إدعاء وجود ميكروب معروف ، بــ يلوث عدد من المستشفيات ، واللى يُحتم إخلاءها بأقصى سرعة …

و إقتنع الأستاذ (موسى صبرى) تماماً بحديث رجل المخابرات ، بل وتحمس له بشدة … و تانى يوم الصبح نشرت جريدة الأهرام خبر إخلاء مستشفى (الدمرداش) من المرضى بسبب تلوث معظم عنابره بميكروب التيتانوس … وبعدها جاء دور الأستاذ (موسى صبرى) في مقال ملتهب إستنكر فيه اللى حصل في مستشفى (الدمرداش) .. وقال إن ده يرجع للإهمال و الإستهتار ..، وتساءل في نهاية المقال ، إذا كان الموضوع ده يقتصر على مستشفى الدمرداش فقط ، وإلا مسلسل الإهمال ده وصل للمستشفيات الأخرى !!

و في اليوم التالي خرج بمقال أخر حول نفس الموضوع …. ثم مقال ثالث ، ورابع ، … و مع رد الفعل الجماهيري ، و بناءً على هذه الحملة الصغيرة الساخنة ، أصدرت وزارة الصحة قرار بإجراء تفتيش على باقي المستشفيات ..

و الطريف فى الموضوع أن وزارة الصحة .. وشوف الصدف يامؤمن …. أسندت المهم دى للطبيب إياه اللى تم تسريحه من الخدمة وعاد للحياة المدنية … وإنطلق الطبيب لمهمته ، علشان يعمل تفتيش على عدد كبير من المستشفيات ، و من ضمنها المستشفيات اللى بــ تحتل القائمة اللى وضعها رجال المخابرات و وزارة الدفاع والمستهدف إخلائها …

ومع مجيئ أول أكتوبر … كان العدد المطلوب من المستشفيات قد تم إخلاؤه بالفعل …، و نشرت جريدة الأهرام تحقيق علني عن الموضوع ، مع نشر صور السراير الخالية و عمليات التطهير المستمرة …. فى نفس الوقت اللى كان فيه رجال المخابرات المصرية بتتابع وتراقب وتتأكد من خلال عمليات جمع المعلومات إن الخطة مشيت زى ما كان مخطط لها ، وإن العدو المترقب والمتنمر ، لم ينتبه للخدعة ولم يكشف ماخطط له رجال الجهاز …

و بعد ستة أيام بالتحديد قامت حرب أكتوبر و إندفعت موجة العبور الأولى تشق قناة السويس ، و تعبر حاجز الهزيمة و تحتل أقوى خط دفاعي في التاريخ ، و تحطم أسطورة الجيش الإسرائيلي ، الذي أشاع أنه لا يقهر أبداً … و خفقت قلوب الرجال في حماس و زهو .. بعد تحقق عامل المفاجأة إلى أقصى تقدير ، و بوغت العدو تماماً بعملية العبور ، حتى إن معدلات الخسائر التي قدرها الخبراء بخمسين في المائة في موجة العبور الأولى ، إنخفضت حتى أنها لم تتجاوز العشرة في المائة ، و هو أقل معدل للخسائر عرفته الحروب الحديثة ، في عملية عبور عائق مائي حصين كهذا …

و لما تحركت كتائب الإسعاف لنقل المصابين إلى الخطوط الخلفية ، و توفير أفضل عناية و رعاية لهم ، كانت كل المستشفيات المطلوبة خالية ، و معدة لإستقبالهم ، و توفير كل الخدمات الطبية لكل واحد منهم …. والعدو لسة ماستوعبش فعليا اللى حصل …

وكان ده دليل على إن الخدعة نجحت نجاح منقطع النظير

الخدعة الطبية 😉🙂

حفظ الله مصر برئيسها وجيشها وشعبها 🙏

لمتابعة تعليقاتكم