الطريق إلى أكتوبر 73  – عملية خط النار

08 Oct 2021

الطريق إلى أكتوبر 73  – عملية خط النار

—————————————

حرب أكتوبر بكل تفاصيلها والإعداد ليها .. زاخرة بعدد لا يحصى من البطولات والعمليات الناجحة اللى ممكن يتعمل منها سجل مشرف من الأفلام الدرامية ، واللى ممكن يبقى مكتبة للتاريخ ، تفضل ماثلة أمام عيون وأذهان كل الأجيال الحالية والقادمة .. و من ضمن العمليات دى .. العملية اللى هــ نتكلم عنها النهاردة .. عملية “خط النار”

إجتمع عدد من خيرة ضباط المخابرات العامة المصرية ، داخل مبنى الجهاز فى واحدة من ليالى الشتاء الباردة فى القاهرة .. وكان الإجتماع ده نتيجة وصول رسالة مشفرة من واحد من أهم عملاء الجهاز فى تل أبيب .. وكانت الرسالة مختصرة للغاية .. و بــ تحمل بضع كلمات فقط .. لكن فحوى الرسالة كان كافى إنه يطير النوم من عيون ورؤس كل فريق العمليات فى التوقيت ده .. واللى بلغت فيه الإستعدادات لشن الحرب المقدسة لإستعادة أرض سيناء ، أقصى مداها .. وكان الخبر اللى ورد فى الرسالة المشفرة كفيل بإنه يقلب كل الخطط دى رأسا على عقب .. وإنه يضع عملية عبور قناة السويس ، و إقتحام خط بارليف المنيع فى خانة الإستحالة !!

كانت الرسالة بتقول إن الإسرائيليين بدأوا فى إنشاء خط للنيران بطول الشاطئ الشرقى لقناة السويس .. وكان الخبر مباغت جداً ومربك لحسابات الرجال .. وإن كانت فكرة إشعال النار فى القناة ، هى فكرة قديمة إبتكرها ميجور (جون بيكر هوايت) من المخابرات البريطانية فى أواخر عام 1940 فى شكل شائعة أطلقتها المخابرات البريطانية .. بسبب عجزهم عن تنفيذ الفكرة فعليا على أرض الواقع بسبب إرتفاع التكلفة المادية لتنفيذ فكرة زى دى نتيجة ضعف الإقتصاد فى زمن الحرب !!

وكان مفادة الشائعة دى إن بريطانيا أحاطت سواحلها بأنابيب من الوقود ، يمكن ضخه إلى سطح البحر لإشعار النار فيه وحرق كل من يحاول غزو الأراضى البريطانية بحراً .. وبناء عليه وصلت الشائعة إلى ألمانيا .. واللى أخذت الشائعة دى على محمل الجد .. واجرت بالفعل تجربتين للتماثل .. للتأكد من نتيجة حاجة زى كدة .. وكانت النتائج مفزعة للغاية … وبناء على الدراسة اللى عملوها دى .. كانت النتيجة إنهم تراجعوا تماما عن فكرة غزو إنجلترا عن طريق البحر . من غير مايدركوا إن الموضوع كله كان مجرد شائعة أطلقتها المخابرات الإنجليزية .. وبكدة خسر الألمان فرصة عمرهم لغزو بريطانيا.

وكان ده اللى أثار مخاوف رجال المخابرات المصرية .. وهو إن الموضوع كله يبقى مجرد شائعة .. وكان على رجال الجهاز إنهم يتأكدوا من الخبر ده ، وبناء عليه نشط عملاء وجواسيس الجهاز فى مراكز القيادة الإسرائيلية وبين صفوف الجيش ، وجمعوا كل مايمكن من صور ووثائق وخرائط وتصميمات للوصول لحقيقة الخبر ..

وفى خلال شهر واحد كانت المعلومات كلها تجمعت فى إيدين الرجال .. واصبحوا على يقين من إن الإسرائيليين أنشأوا خط النار ده بالفعل .. وإن الخبر حقيقى مش مجرد شائعة … ومش كدة وبس .. لكن دوول كمان حصلوا على رسم دقيق للإنشاءات وعينة من السائل الملتهب اللى هــ تضخه الأنابيب لسطح القناة .. وإكتشفوا إنه تم تصميم خط النار ده بحيث إنه يضخ خليط من النابالم ، والزيوت سريعة الإشتعال ، والكيروسين بطول إمتداد القناة على سطح الماء ، من خلال عدد من الصهاريج الضخمة اللى لها صمامات تتحكم فيها طلمبات ضخ ، يخرج منها خط من الأنابيب بقطر ست بوصات ، وتنتهى بفتحات تحت سطح الماء ، فى كل المواضع الصالحة لعبور قناة السويس ..

و ده كان أمر بالغ الخطورة .. لأن لو الإسرائيليين إستخدموا الأسلوب ده أثناء عملية العبور .. ده هــ يؤدى لخسائر فادحة ممكن تلتهم أكثر من 90% من موجة العبور الأولى .. وأكثر من 70% من موجات العبور التالية … و دى كانت نتائج كارثية بكل المقاييس .. وكان على الرجال قبل إعلان النتائج دى ، إنهم يتأكدوا الأول بإجراء تجربة عملية .. ومايعتمدوش على النظريات

وبناء عليه تم إجراء تجربة عملية بالفعل بإستخدام نفس الخليط للسائل ده ، وبنفس النسب فى منطقة بعيدة عن العمران على مياه النيل .. و تم إشعال النيران .. وكانت النتائج مفزعة … لأن درجة حرارة السطح بعد إشعال النيران ، وصلت إلى 700 درجة مئوية .. وده كان شيئ فى منتهى الخطورة .. وممكن يهد عملية العبور من اساسها …

و مش كدة وبس .. لكن كمان الإسرائيليين إستغلوا الشق النفسى لخط النار اللى أنشئوه بطول قناة السويس كجزء من تحصينات الخط العسكرى اللى أطلقوا عليه إسم الجنرال والقائد العسكرى الإسرائيلي (حاييم بارليف) .. وأعلنوا عنه بمنتهى التحدى لإثارة الفزع والرعب فى قلوب رجال الجيش المصرى.

و من العجيب إن المخابرات العامة ، ماحاولتش التهوين من خطورة الموضوع .. بل بالعكس .. دى ساعدت فى إذاعة تفاصيله المخيفة ، وكأن مصر بتعلن يأسها من إيجاد حل للعبور .. وإستسلام الرجال لروح اليأس بإعتبارها مهمة مستحيلة .. و ده ملأ عقول وقلوب الإسرائيليين بالزهو وإعتبروا إنهم إنتصروا فى حربهم النفسية على المصريين ….

لكن رجال المخابرات المصرية كان لهم رأى أخر ..

خطة التعامل مع المهمة المستحيلة كانت إتحطت بالفعل .. وبناء عليه بدأ الرجال إتصالاتهم بكل عملاء مصر السريين فى تل أبيب وعلى راسهم العميل المصرى (رفعت الجمال) .. وطلبوا منه محاولة الوصول لتصميمات ومواضع فتحات أنابيب اللهب تحت سطح البحر .. وكانت التكليفات واضحة وصريحة .. وهى ضرورة الوصول للتصميمات دى بأى ثمن … وكان ده معناه إن الطلب ده على رأس الأولويات .. وإن كل الوسائل مشروعة مهما كانت للوصول لسر التصميمات دى .. و من المنطلق ده .. بدأ (رفعت الجمال) تحركاته …

طبعا الموضوع ماكانش سهل بأى حال من الأحوال .. وكان على العميل المصرى إنه يتحرك على نطاق واسع ، ويستغل كل إمكانياته ومعارفه وعلاقاته المتجذرة فى تل أبيب للوصول للمعلومة الحساسة دى .. وبعد حوالى 3 شهور .. نجح العميل المصرى فى الوصول لقائد جبهة سيناء ومن خلال لقاءاتهم المشتركة . بدأ (رفعت الجمال) ينقل كم كبير من المعلومات للرجال فى القاهرة .. واللى كان عليهم ترتيبها ، وتركيبها ، وربطها ببعض زى البازل فى محاولة للوصول للصورة الكاملة …

لحد ما وصلت للرجال رسالة من (رفعت الجمال) بتطلب لقاء عاجل فى روما لأنه حصل على وثيقة مهمة لازم يتم تسليمها يداً بيد .. وبرغم خطورة لقاء زى ده .. فى التوقيت ده ، إلا إن اللقاء تم .. وقام (رفعت الجمال) بتسليم ضابط المخابرات المصرى خريطة كاملة لخط النار ، بكل تفاصيله .. وبالتالى أصبح جهاز المخابرات العامة على علم بموضع كل فتحة ، من فتحات أنابيب النابالم … واصبح من الممكن وضع خطة محكمة لإفساد فاعلية خط النار الإسرائيلي فى الوقت المناسب.

و فى مبنى المخابرات تم صنع خريطة مجسمة ضخمة لمنطقة القناة ، وتوزيع أنابيب النابالم فيها وأعادوا دراسة الموقف بناء على المعلومات الجديدة .. وإتفق المسئولين عن العملية ، إن الهدف مش هــ يكون إبطال فاعلية الخط فقط .. لكن الأهم إن ده يتم فى التوقيت المناسب .. بحيث إن العدو يبقى عاجز عن إصلاح العطل لما يبدأ الهجوم الشامل ويستعد جنودنا لعبور القناة.

وبناءً عليه .. تم إقامة أكثر من نموذج لمناطق أنابيب النابالم فى مناطق بعيدة عن العمران ، وموضوعة تحت حراسة خفية ولكنها مشددة ، وتم تدريب عدد من رجال الضفادع البشرية على التعامل معها ، بالإضافة لعدد أخر من رجال الكوماندوز المصرى .. وبعد شهور طويلة من التدريبات والإختبارات المتوالية ، حانت لحظة المواجهة الحقيقية !

وفى الساعات الأولى من صباح السادس من أكتوبر ، وقبل ماتبدأ الحرب بعدة ساعات … تسللت مجموعتين من الضفادع البشرية والقوات الخاصة إلى مناطق الأنابيب .. فــ قامت الأولى بقطع خراطيم المضخات ، فى حين تولت المجموعة الثانية سد فتحات الأنابيب بــ لدائن خاصة لديها القدرة على التصلب السريع.

و على الرغم من خطورة القيام بعمليتين إنتحاريتين فى وقت واحد .. لكن ده كان شيئ ضرورى .. لإن إزدواج الوسيلة ، هــ يؤدى لتأمين العملية بشكل مطلق .. بحيث إنه لو تم كشف تلف المضخات على سبيل المثال .. فــ ده هــ يربك العدو … و هــ يدفعه للتركيز على إصلاحها من غير ما يدرك إن ده مالوش فايدة ، لأنه مايعرفش إن الأنابيب نفسها هــ تكون مسدودة !!

و مع بدء عبور رجال قواتنا المسلحة لقناة السويس فعلياً فى الساعة الثانية يوم السادس من أكتوبر ، كان من الطبيعى إن الإسرائيليين يلجأوا لسلاح خط النار بفتح مضخات النابالم علشان يغمروا القناة بالسائل الملتهب وإشعال النار فى المصريين اللى بــ يعبروا القناة و هم بيهتفوا (الله أكبر) .. لكنهم فوجئوا بتوقف جميع الأجهزة عن العمل ، وفقدان خط النار لفاعليته …

و من المؤكد إن صدمة العدو كانت فى منتهى العنف .. و هم بــ يشوفوا موجات العبور من المقاتلين المصريين وهم بــ يعبروا قناة السويس ، وبتسقط كل تحصيناتهم تحت أقدام الجندى المصرى …. و ده كان شهادة نجاح لإستعدادات وتخطيط القوات المسلحة المصرية .. وشهادة تفوق لرجال المخابرات العامة المصرية .. اللى قهروا اسطورة التفوق الإسرائيلى ، وحطموا أقوى خطين فى التاريخ العسكرى كله ..

خط بارليف … و …

و خط النار …

حفظ الله مصر برئيسها وجيشها وشعبها 🙏

#المصدر:

منقول بتصرف أدمن كلام فى الصميم .. من كتاب حرب الجواسيس للراحل د. نبيل فاروق .. وكتاب رأفت الهجان للراحل صالح مرسى

لمتابعة تعليقاتكم